هدوء القتلة خارج من روح ملائكية
أول اصدارات 2008 لدار ميريت -
الجزء الال من راوية "هدوء القتلة" للروائى الشاب
طارق أمام
1
تبدو القاهرة لمن لا يعرفها مدينةً شديدةَ الضخامة ، غير أن القتلة فقط – وهُم حالمون بالضرورة - يُدركون أن ذلك غير صحيح.
صدقتُ دائماً أن تاريخ الدماء هُنا بدأ من حكاية ناسك ، كان يسكن قبواً قامت فوق أطلاله فيما بعد تلك البناية الزجاجية الضخمة التي صارت رمزاً للمدينة الشاحبة. البنايةُ التي يمكنك أن تراها من أي بقعة ، والتي أقف الآن في شرفة طابقها الثالث والعشرين.. أراقب الصباحَ من خلف النوافذ بوجهٍ غائبٍ ، يفتش في البيوت البعيدة عن بقاياه. ربما أتطلع أيضاً للطائرات الورقية التي تصطدم كل لحظاتٍ بالواجهة ، لتخدش - في كل مرة - قطعة جديدة من جسدها. نعوشٌ صغيرة وهشة تطارد الهواء الشاسع ، يلتصق بعضها بالزجاج قبل أن تنفلت مدفوعة بالخيط.. كأن يداً بعيدةً لإله مغدور تُحركها.
كان الناسكُ حليقاً ، بما يليق برجلٍ رأى الله كثيراً في مناماته و عرف أقصر الطُرق لتجنبه . في أذنه اليسرى قرط معدنى على هيئة ثعبان مجنح يتدلى حتى كتفه ، ومكان أذنه اليسرى - التي سقطت ذات يوم فجأة ، بعد أن تآكلت من طول التنصت على غرف المدينة المغلقة – ثَبَّت قماشة.
كانت الفئران تتقافز في حجره ، تلتهم فتات الخبز الذي يتبقى من طعامه ، وبيده المقدسة تعوَّد أن يُملِّس على فرائها المنحولة ، ويتحسس ذيولها المتطاولة الملتوية المنفلتة على الدوام من بين أصابعه. من أنوفها الدقيقة تتساقط نقاط الدماء وتذوب في جلبابه ، ولكنه رغم ذلك لم يكن يخشى الطواعين.
ليست الفئران وحدها شريكة صباحاته .. يخرج النمل من جحوره وتتمدد السحالي على الحوائط ، ومن الكوة المفتوحة في الجدار الذي يسند إليه ظهره تدخل النسور مدوِّمة الهواء الشحيح إنذاراً بموتٍ قادمٍ أو تنبيهاً بجثمان فاحت رائحته دون أن ينتبه الناسك الغارق في أحلام يقظته.
في أحيان كثيرة كان يمد رأسه من تجويف الكوة غير منتظمة الحواف. كانت الفتحة المرتجلة بحجم رأسه بالضبط ، لذا كان يجد صعوبةً حقيقية عند إدخاله من جديد ، ويعتقد لوهلة - لكن دون فزع - أن رأسه سيظل هكذا ، يطل على الحياة ، بينما جسده في الداخل يتيبس ويشيخ دون أن يقوى على فعل أي شيئ.
كان يتأمل المدينة التي صارت مكاناً آخر غير الذي وطأته قدماه منذ ما يزيد على مائة سنة. لقد كانت – حين جاء حافياً تحت شمس قوية - أشبه بدير كبير خالٍ لا يحتاج الناس فيه إثماً كي يتعذبوا.
كانوا يذبلون فجأة ، ويستيقظ كل صباح على حفرة جديدة تستقبلها الأرض ليُسكِنوا جثماناً جديداً سيضاف إلى تعداد الأشباح التي تطوِّق المدينة. وكانوا رغم ذلك يبتسمون طوال الوقت.. ولكنه كان يشخص – مثلما أفعل الآن كما أعتقد - فوق صفوف البيوت المتراصة الواطئة ، محركاً كف يده كمن يُلوِّح إلى مسافر يعرف أنه لن يعود ، بعد أن نقلوا كل الرفات إلى مكان بعيد عن تخوم المدينة ، وصاروا يتحركون مثل قطع صغيرة معدة للحياة في لعبةٍ غامضة.
كل صباح ، كان يمد أصابعه الخشبية النحيلة نحو المجلد الضخم: تاريخ غرامه السري. كان جميع من يتلصصون عليه أثناء تفحصه له بوجل - بينما تُغرِق دموعُه جلبابَه المهترئ - يظنونه كتاباً مقدساً. كانت هذه اللحظات هي الأشد سرية في صباحاته ، حيث يغلق بابه على نفسه ، مستعيداً هيئة الديكتاتور الذي كانه ذات يوم ، والذي كان قادراً على تحطيم جدران المعبد ، والمدينة ذاتها ، والعالم ، بمجرد نفثة غضب موجهة للسماء دون وسيط.. ليأمر بطرد الفئران وقتل الضوء الذي يَتسلل ليخون وصاياه.. يحنط الزواحف على حائطه بنظرة ويحيل النمل المتسارع في هربه لعلامات سوداء ميتة. وعندما يصير توحده نهائياً ، يبدأ يتصفح الأوراق. يتحسس وروداً شاخت وفراشات هشة يكفي زفير ضعيف للإطاحة بتاريخ صمودها.
طالما رأى أشياءً رؤية العين كانت تتحطم على صخرة الإفاقة من أحلام يقظته ، كالبنت النحيلة التي تعبر كشبح إلى غرفة نومه. تترك وردة تحت وسادته – بينما ترتبك الأحلام قليلاً من جراء التحريك الخفيف لرأسه – ويمد أصابعه محاذراً ألا تجرحه الأشواك أو تباغته اليقظة ، ولكنه كان يفيق ليكتشف أن الأوراق الحمراء المتفتحة تحت وسادته ليست سوى آثار لعابه الدموي. لعابه الدموي هذا نفسه تمنى أن يكون مسموماً ، ليضمن – إن قبَّل امرأة - أن يكون صاحب آخر شفتين تتذوقهما في حياتها. ولكن ، كان يقول: ماذا لو ابتلعتُ أنا السم؟ .. لن تخسر هي حينها سوى بعض الدماء على شفتيها مقابل قبلةٍ مقدسة.
هكذا ظل يتوهم حروباً لم يخضها ، ويحتاط لأشخاصٍ لن يراهم أبداً ، ووصلت ألفته بجدرانه حد أنه صار قادراً على تحريك الحوائط بمجرد النظر إليها ، وهدمها تماماً في ليالي مشيه الأبدي أثناء نومه ، وهو يحمل مجلده ، باحثاً في وجوه المدينة عن امرأةٍ تصلح لأحلامه القادمة.
ترك الرجل نسلاً كثيراً في أرجاء المدينة ، أبناء وأحفاد يحملون وجهه ، عينيه الملونتين وصوته المبحوح.. جميعهم قتلة متوحدين ، غارقين في منامات خطرة مثله ، لا يرون وجه الله سوى بعيون مغلقة.. وقد عرفتُ دائماً – دون أن أحتاج لجهد كبير - أنني واحد من هؤلاء.
تبدو القاهرة لمن لا يعرفها مدينةً شديدةَ الضخامة ، غير أن القتلة فقط – وهُم حالمون بالضرورة - يُدركون أن ذلك غير صحيح.
صدقتُ دائماً أن تاريخ الدماء هُنا بدأ من حكاية ناسك ، كان يسكن قبواً قامت فوق أطلاله فيما بعد تلك البناية الزجاجية الضخمة التي صارت رمزاً للمدينة الشاحبة. البنايةُ التي يمكنك أن تراها من أي بقعة ، والتي أقف الآن في شرفة طابقها الثالث والعشرين.. أراقب الصباحَ من خلف النوافذ بوجهٍ غائبٍ ، يفتش في البيوت البعيدة عن بقاياه. ربما أتطلع أيضاً للطائرات الورقية التي تصطدم كل لحظاتٍ بالواجهة ، لتخدش - في كل مرة - قطعة جديدة من جسدها. نعوشٌ صغيرة وهشة تطارد الهواء الشاسع ، يلتصق بعضها بالزجاج قبل أن تنفلت مدفوعة بالخيط.. كأن يداً بعيدةً لإله مغدور تُحركها.
كان الناسكُ حليقاً ، بما يليق برجلٍ رأى الله كثيراً في مناماته و عرف أقصر الطُرق لتجنبه . في أذنه اليسرى قرط معدنى على هيئة ثعبان مجنح يتدلى حتى كتفه ، ومكان أذنه اليسرى - التي سقطت ذات يوم فجأة ، بعد أن تآكلت من طول التنصت على غرف المدينة المغلقة – ثَبَّت قماشة.
كانت الفئران تتقافز في حجره ، تلتهم فتات الخبز الذي يتبقى من طعامه ، وبيده المقدسة تعوَّد أن يُملِّس على فرائها المنحولة ، ويتحسس ذيولها المتطاولة الملتوية المنفلتة على الدوام من بين أصابعه. من أنوفها الدقيقة تتساقط نقاط الدماء وتذوب في جلبابه ، ولكنه رغم ذلك لم يكن يخشى الطواعين.
ليست الفئران وحدها شريكة صباحاته .. يخرج النمل من جحوره وتتمدد السحالي على الحوائط ، ومن الكوة المفتوحة في الجدار الذي يسند إليه ظهره تدخل النسور مدوِّمة الهواء الشحيح إنذاراً بموتٍ قادمٍ أو تنبيهاً بجثمان فاحت رائحته دون أن ينتبه الناسك الغارق في أحلام يقظته.
في أحيان كثيرة كان يمد رأسه من تجويف الكوة غير منتظمة الحواف. كانت الفتحة المرتجلة بحجم رأسه بالضبط ، لذا كان يجد صعوبةً حقيقية عند إدخاله من جديد ، ويعتقد لوهلة - لكن دون فزع - أن رأسه سيظل هكذا ، يطل على الحياة ، بينما جسده في الداخل يتيبس ويشيخ دون أن يقوى على فعل أي شيئ.
كان يتأمل المدينة التي صارت مكاناً آخر غير الذي وطأته قدماه منذ ما يزيد على مائة سنة. لقد كانت – حين جاء حافياً تحت شمس قوية - أشبه بدير كبير خالٍ لا يحتاج الناس فيه إثماً كي يتعذبوا.
كانوا يذبلون فجأة ، ويستيقظ كل صباح على حفرة جديدة تستقبلها الأرض ليُسكِنوا جثماناً جديداً سيضاف إلى تعداد الأشباح التي تطوِّق المدينة. وكانوا رغم ذلك يبتسمون طوال الوقت.. ولكنه كان يشخص – مثلما أفعل الآن كما أعتقد - فوق صفوف البيوت المتراصة الواطئة ، محركاً كف يده كمن يُلوِّح إلى مسافر يعرف أنه لن يعود ، بعد أن نقلوا كل الرفات إلى مكان بعيد عن تخوم المدينة ، وصاروا يتحركون مثل قطع صغيرة معدة للحياة في لعبةٍ غامضة.
كل صباح ، كان يمد أصابعه الخشبية النحيلة نحو المجلد الضخم: تاريخ غرامه السري. كان جميع من يتلصصون عليه أثناء تفحصه له بوجل - بينما تُغرِق دموعُه جلبابَه المهترئ - يظنونه كتاباً مقدساً. كانت هذه اللحظات هي الأشد سرية في صباحاته ، حيث يغلق بابه على نفسه ، مستعيداً هيئة الديكتاتور الذي كانه ذات يوم ، والذي كان قادراً على تحطيم جدران المعبد ، والمدينة ذاتها ، والعالم ، بمجرد نفثة غضب موجهة للسماء دون وسيط.. ليأمر بطرد الفئران وقتل الضوء الذي يَتسلل ليخون وصاياه.. يحنط الزواحف على حائطه بنظرة ويحيل النمل المتسارع في هربه لعلامات سوداء ميتة. وعندما يصير توحده نهائياً ، يبدأ يتصفح الأوراق. يتحسس وروداً شاخت وفراشات هشة يكفي زفير ضعيف للإطاحة بتاريخ صمودها.
طالما رأى أشياءً رؤية العين كانت تتحطم على صخرة الإفاقة من أحلام يقظته ، كالبنت النحيلة التي تعبر كشبح إلى غرفة نومه. تترك وردة تحت وسادته – بينما ترتبك الأحلام قليلاً من جراء التحريك الخفيف لرأسه – ويمد أصابعه محاذراً ألا تجرحه الأشواك أو تباغته اليقظة ، ولكنه كان يفيق ليكتشف أن الأوراق الحمراء المتفتحة تحت وسادته ليست سوى آثار لعابه الدموي. لعابه الدموي هذا نفسه تمنى أن يكون مسموماً ، ليضمن – إن قبَّل امرأة - أن يكون صاحب آخر شفتين تتذوقهما في حياتها. ولكن ، كان يقول: ماذا لو ابتلعتُ أنا السم؟ .. لن تخسر هي حينها سوى بعض الدماء على شفتيها مقابل قبلةٍ مقدسة.
هكذا ظل يتوهم حروباً لم يخضها ، ويحتاط لأشخاصٍ لن يراهم أبداً ، ووصلت ألفته بجدرانه حد أنه صار قادراً على تحريك الحوائط بمجرد النظر إليها ، وهدمها تماماً في ليالي مشيه الأبدي أثناء نومه ، وهو يحمل مجلده ، باحثاً في وجوه المدينة عن امرأةٍ تصلح لأحلامه القادمة.
ترك الرجل نسلاً كثيراً في أرجاء المدينة ، أبناء وأحفاد يحملون وجهه ، عينيه الملونتين وصوته المبحوح.. جميعهم قتلة متوحدين ، غارقين في منامات خطرة مثله ، لا يرون وجه الله سوى بعيون مغلقة.. وقد عرفتُ دائماً – دون أن أحتاج لجهد كبير - أنني واحد من هؤلاء.
تعليقات
حلوه اوى
سلام يا جميل
أكرم العوضى
أعتقد من قراءة هذا الجزء أن طارق ينسج في عالم خاص جدا.. وإلى أن أقرأها أتمنى له ولكي تمام التوفيق
خالص محبتي وتمنياتي
طارق أنا بقرأله فى الدستور
دايماً أنا ومنة بنتى بنقول عليه عبقرى بيجيب الأفكار دى منين
سلامى ليكى
وبوسة كبيرة لنهنوه
سوسووو
خرجت لنا مع أشباح من البيوت التي نامت ليلها وانتصبت رويدا رويدا تشق الليل في نزعه الأخير
خرجت لنا مع أشباح ضبابية من الوشوش التي تكتمل ملامحها شيئاً فشيئاً وما أن تكتمل حتى تتلاشى الا من صور معلقة على الحوائط وفي القلوب وفي أوراق رسمية
خرجت لنا مع أظافر ومخالب تشق لحد جديد لحد قيصري لورقة سقطت من فوق سبع سموات
خرجت لنامع نبت من الصبار سبقته أشواكه وهي تصارع قبرهها لترى قبراً أخر
بجانبهالا لتشمت فيهبل لتؤنس وحدته
خرجت لنا روايته من بين أضغاث الأحلام تبحث لها عن مفسر يرمي جانباً بالامعقول و يعرف فك طلاسمها
خرجت لنا من بين نواميس الزمن الجبرية تبكينا حينما يرغمنا الزمن على تحولاته الجبرية فتعتصر ارواحنا وأجسادنا وهي معلقة على احبال من الزمن ممتدة من حيث شاء الله الى حيث شاء الله أيضا
خرجت لنا روايه طارق امام من لوحة سريالية لسلفادور دالي ولكنها لوحة ليست عبثية بل كل مفرادتها في حالة من البحث الدائم عن الحقيقة الخالصة
الحقيقة الوحيدة
في حياتنا
مروة الزارع وانت طيبة جدا جدا جدا
مصطفى أشكرك على تشريفك لى واعجابك بمدونتى ، ومرحبا بك دائما
محمد صبحى
نورت ورواية طارق قنبلة 2008 انشالله ـ
اكرم ، هى بأذن الله صادرة عن دار ميريت على المعرض وبالتأكيد هاتكون فى مكانهم فى المعرض وانشألله بعد المعرض ستتوافر بجميع المكتبات انشألله واولهم ميريت طبعا
اشكرك يا ايها الروائى الرائع استاذنا ، ربنا يخليك لينا وتقرالنا دائما ونبقى حتة صغنونة من موهبتك ، شكرا
العزيز الغالى /حسن ارابيسك
تحية طيبة وبعد
مش عارفة اقولك ايه ، اعتقد طارق هو اللى ممكن يقولك ، ومعرفش هايشكرك ازاى على الروعة النقدية دى .. منور يا جميل
أكرم العوضى
أو على soha_gom@hotmail.com
كتابة جميلة مثله تماما
وشكرا يا سهى على نشر هذا المقطع من هدوء القتلة