عذرا سيد حزن
يعرف الجميع من هو السيد حزن ؟ هو من يحكم سيطرته على
البشرية ، من يجيد تسخير مساعديه لمعاونته فى كل حزن ، بداية من حرمان طفل من ثدى
أمه ، مرورا بالانكسارات الصغيرة فى الطفولة ، وفشل الحب الأول ، نهاية بإجبارنا
على الاستسلام لمساعده الأكبر ، الموت ، ولذلك تقاوم صديقتى دائما سيطرة جبروته ،
فى احد مرات هروبها من السيد حزن ، خرجت باتجاه المرح ، فوقفت مختبئة فى الركن ،
تنظر لذلك الكائن الطيفى الذى يشغل مساحة لا بأس بها ، يتعامل مع تلك المساحة كآله
نبيل للخمر ، تذهب دائما هناك لتتمرد على حالة العادية التى تعيشها لها الآن عشر
سنوات ، تذهب لترى أصدقاء لا يعانون الحزن بقدر ما يعانون مثلها من الوحدة والفقد
، منهم من أتخذ قرارا بمعاشرة الوحدة معاشرة الأزواج ، فيبدو كزوج يهرب من زوجته
ليلا ، ثم يعود لها دون أن يتخذ قرار الطلاق أبدا ، ومنهم من يهرب بالفعل من
مشاكله بسكر لطيف ينتهى بقصة أو كتاب أو قصيدة أو لوحة ، يتحدث عنها رواد البار
الليليين ، كانت هى ضمن من اختاروا الوحدة زوجا لطيفا محببا لا يضايقها ، فتذهب
للبار هربا منه حتى تعود إليه فى حالة سكر خفيفة لتتحمل سخافته وثقله عليها ،
جمعتها بأحدهم نظرات محبة وشغف ، وقررا خيانة وحدتهما ، سكرا سويا ، ولم يرجعا
للوحدة بعد ، فاجأتنى بسعادتها الجديدة ، قالت لي أنها مارست الحب لأول مرة فى
حياتها ، وأنها أصبحت عاشقة ، قلت لها ، لا تتعجلي فربما يتقن أداء دور العاشق ، وربما
لا يريد لأحد مشاركته عداد قلبه ، وتنهدات أحلامه وكأس خمره وخشوع صلاته ، فأجابتنى
، أنها سعيدة لأول مرة منذ سنوات ، وأنها لن تضيع فرصة سعادتها مع شريك يهرب من
وحدته مثلها ، بدأت تستمع لأغاني الحب الساذجة ، وتتنهد إذا ما مر شبيه لحبيبها ،
وحرصت على الذهاب للقائه فى مكانه الذى يحبه ، ولكنه مخلص لزوجته الوحدة ، حيث
يهرب لحضنها ، كلما شعر بأن حبيبته ستأخذه بعيدا عنها ، فيختفى بعيدا عن الأنظار ،
ويرسل لها رسائل مؤلمة مغذاها "أنا لا أحبك ،أنا أحب وحدتى" ، فتتورط فى
شعور مقيت بصدمة عاطفية ، ويضاف لها مجددا شعور فقد لا تجد من يشاركها فيه ، تمنيت
كإحدى متأملات الحواديت العاطفية المؤلمة ، أن أرسل رسالة لكل هؤلاء الذين يجرحون
كموس ناعم دون أن يشعرون ، من يتركون أحبة يتهاوون فى الطريق ولا يعيرونهم أدنى
التفاتة ، أريد أن اخبرهم عن حال العشيق المغدور .
"ترى من سيهاتف الحزين صباحا عندما يترك
الحبيب ليله بهذا الحزن ؟ ليخبره فى هذا
التوقيت العصيب فى عمر النهار عن ألمه ، حيث تلهث الأمهات مع أولادهن ، وسيخاف الآباء
الرد على تليفون صباحى حتى لا يضعهم ذلك فى وضع خائن محتمل لدى زوجاتهم ، حتى
الفتيات الصغيرات منشغلات بتليفونات أحبتهم ،عليك أيها الحبيب القاسى ، عندما تقرر
أن تنسحب أو تؤلم ، أن تفعل ذلك نهارا ،
حيث صخب الحياة سيمنع من وقوع كوارث كبرى ، وسيتيح للحزين منك ، إخراج غضبه بلا
إشارة لجرحه العاطفى ، كأن يصرخ فى الطريق تأففا من زحام السيارات المتكدسة وقت
الذروة ، أو أن ينهار من الوقوف على محطة الترام ، فيبدأ فى عرض ملاحظات غاضبة عن
المواصلات ووزير المواصلات ورئيس الجمهورية ، النهار سيعالج لحظات الغضب الأولى من
قسوتك أما الليل فيجمع كل مشاعر العشق معك ويملؤها بالوجد والتذكر لمآسى الحياة التى
ظن الحبيب أنها انتهت بظهورك ، فالليل
يتحالف مع الحزن ، والوحدة ليوجهوا للقلب ضربة قاضية ربما تكون فى مقتل الحنين
تحديدا ، لماذا اتفقت معهم جميعا ولم تأبه
لطيبة وعشق وأتناس حبيبك بك ، وتجعلهم يشفعون لك عند قسوتك وجبروتك
الأن وبسبب الليل يكبر الحزن بالفقد إلى حد بعيد ، حيث
يأتى الصباح الأول لليلة الحزن كئيبا ، تخلو من سمائه زقزقة العصافير وهديل
اليمامات ، تهرب منه روائح الأشجار المنداه بالمحبة .
لم يسألك من غدرت به ، يوما ، إلى أين سيتجه بكم قطار
المحبة عندما تورطتم فى ارتياده سويا ، ليس ذنبه انه تعجل وصوله لمحطة النهاية ،
لم يكن يدرك أن سائقه أهوج إلى هذا الحد ، أو أن هناك من يقف متربصا بالقطار
ليوقفه فى الطريق" .
كم مؤلمة هى مشاهد الوداع الدراماتيكية ، خاصة تلك
الناتجة عن سوء الفهم ، والتى تشبه فى إخراجها القدرى ، لغز معقد لا يفهمه حله إلا
المتفرجون ، فقد فهم خطأ فى المحطات الأولى أنك تريد ان تشاركه محطة وصوله ، فإذا
بك تستأذن فى الذهاب لشراء باقة بنفسج ، يعرف الجمهور وجهتك ، تضع الباقة على
قدميه ثم تقبله بشغف ، فيخرج من إغماضه عينه بأحلامه الوردية ، ليفتحهما على يدك
وهى تلوح له من شباك القطار وهو يتحرك فى اتجاه محطته المقفرة .
ربما لو كانت أبنه ستة عشر عاما لطاردتك في كل مكان ،
وجلست في ركن البار تحاول تمثيل التجاهل ، والنضج ، تشرب بفضل قسوتك أول كأس للخمر
، فيدور رأسها ، وتدمع عيناها ، وتقوم بتهور لمناداتك عبر السكارى ، فتقف بثبات
وغرور مصحوب بابتسامة ساخرة من سذاجة فتاة صدقت سحر النظرات ، ثم تقف بجوار شمطاء
سبعينية ، ورفقاء البار الناضجون لتهدئتها بكأس براندى مجففا دموعها ، وتمر
السنوات لتصير مجرد رفيقة سكر ، تأتى هاربة من ضغوط الوحدة والحزن والعجز ، لكنها
للأسف امرأة قاربت الأربعين ، ليس لديها زمن تعليمى جديد ، لم تعد تملك حياءا
يجبرها على أداء دور الضحية ، فقط تملك قلبا حديديا تسجن فيه مشاعرها المهلكة
وجسدا يقاوم العطش بالإيمان ، لذلك وببساطة أيها المستمتع بالوحدة هى تهنأ بالحب
والعشق ، ولا تهتم بمن لا يقدر قيمة عشقها ، خاصة أكلوا الأجساد والقلوب ويكفى أنها
استطاعت قهر السيد حزن من قبل ، ورفضت سيطرته عليها ، حتى بالموت ، ذلك الرفيق
الذى يصر على مطاردتها اينما اتجهت ، ستصادق السيد حزن وتشرب معه ، وستقنعه بإبعاد
الموت عن طريقها الى أن تتخذ هى القرار وتطلب مساعدته ، فيكفي السيد حزن انها
صاحبته وفضلته على الجميع ، فخور هو بها السيد حزن ، لذلك سينفذ طلبها اللئيم ،
ويتركها تنعم بالحياة قدر الإمكان ، بل وسيساعدها بإبعاد من هم أكثر حزنا منها
عنها ، فيكفى هو رفيقا دائما .
اللوحة مأخوذة من بروفايل بكر الجلاس
تعليقات
هذا أول تعليق لي هناك
و لكنني متابعة شغوفة بهذه المدونة الثمينة و الدسمة بالمشاعر الرقيقة
أحببت كلماتك جدا
شعرت أنها خرجت من مكان عميق داخل روحك
استطاعتي بمهارة تجسيد حالة صعب الحكي عنها و تجسيدها فوق الأوراق
تحياتي لك
و في أنتظار المزيد و المزيد
من إبداعاتك